أدلة وجود الله دليل الخلق و الإيجاد (3)

أدلة وجود الله دليل الخلق و الإيجاد (3)





إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .


و أشهد أن لا إله إلى الله ، و أن محمدا عبده ورسوله بلغ الرسالة ونصح الأمة و كشف الله به الغمة و جاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين .


أما بعد :

فأدلة وجود الله كثيرة جدا و كل شيء في الكون يدل على وجود الله سبحانه وتعالى، إذ مامن شيء إلا وهو أثر من آثار قدرته سبحانه، وما ثم إلا خالق ومخلوق ، و الله رب كل شيء قال تعالى : ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾[1] .

و من أقوى أدلة وجود الله سبحانه وتعالى دليل الخلق و الإيجاد بعد العدم قال تعالى : ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ ﴾[2] ولقد صاغ الله سبحانه وتعالى هذه الحجة في الأسئلة الإنكارية : هل خُلقوا من غير شيء فوجدوا بلا خالق ؟ وذلك في الفساد ظاهر ، لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الأمر فلا بد له من خالق ، فإذا أنكروا الإله الخالق ، ولم يجز أن يوجدوا بغير خالق أفهم الخالقون لأنفسهم ؟ وذلك في الفساد أظهر ، لأن ما لا وجود له كيف يخلق ؟ و كيف يجوز أن يكون موصوفاً بالقدرة ؟ وإذا بطل الوجهان معاً قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً فليؤمنوا به .

و قد ذكر الله الدليل بصيغة استفهام الإنكار ليتبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس ، لا يمكن إنكارها ، فلا يمكن لصحيح الفطرة أن يدعي وجود حادث بدون محدث أحدثه ، و لا يمكنه أن يقول : هو أحدث نفسه . ‏

و إن وجود هذه الموجودات بعد العدم، وحدوثها بعد أن لم تكن، يدل بداهة على وجود من أوجدها وأحدثها ‎‎وليس شرطاً أن يقف كل أحد على حدوث كل شيء حتى يصدق بذلك و الإنسان إذا رأى حدث أدرك بداهة أنه له محدِث و إذا رأى فعل أدرك بداهة أن له فاعل .

و هذا الكون الذي نعيش فيه 

إما أن يكون له فاعل و الفاعل إما من جنس المفعول ( الطبيعة ) أو ليس من جنس المفعول ( الله ) .

و إما : ألا يكون له فاعل .

و نعلم بداهة وضرورة أن الفعل لابد له من فاعل ، و عليه يبطل الاحتمال الثاني الذي يقول أن الكون الذي نعيش فيه وجد بغير فاعل ، فنحن نشاهد المفعولات ( المخلوقات )، و نعلم ضرورة أنها لابد لها من فاعل، فالقول بمفعول له فعل ولا فاعل له باطل بشهادة الحس والعقل .


و الفاعل الذي أوجد هذا الكون بعد أن لم يكن لا يجوز أن يكون من جنس المفعولات كلها ؛ لأنه في حال كونه من جنس أي نوع من المفعولات سينطبق عليه جميع أحكام المفعولات ، وأهمها أنها تقبل العدم، ووجدت بعد أن لم تكن ، و مجرد احتمال قبول الفاعل للعدم يبطل كون هذا الفاعل خالقا، لأن الخالق الذي يقبل العدم مفعول محتاج إلى من يوجده ، فيصبح مفعولا لا فاعلا و على هذا لا يصح القول بأن موجد الكون بعد أن لم يكن هو الطبيعة ؛ لأن الطبيعة من جنس هذه الموجودات التي وجدت بعد أن لم تكن و الشيء لا يكون موجدا لنفسه لأن هذا يستلزم تقدمه على نفسه وهو باطل بداهة .

فإذا بطل كون الفاعل (الخالق) من جنس المفعول وبطل القول بعدم وجود فاعل ( خالق ) للمفعولات المشاهدة وجب التسليم بأنّ الفاعل يجب أن يكون موجودا و يجب ألا يكون الفاعل من جنس المفعولات مطلقا و هذا لا يكون إلا الله سبحانه وتعالى قال تعالى : ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾[3] .

ولقد أدرك دليل الخلق و الإيجاد البدوي البسيط الذي عاش يرعى إبله في مجاهل الصحراء فكان يقول : البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير ، سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ؟! ألا تدل أنهـا صنعت بتدبير العزيز العليم ؟! كما أقر بها قادة العلوم التجريبية وأساطينها في واقعنا المعاصر ، وعبروا عنها بقانون السببية ، وخلاصته أنه ليس لشيء من المُمكنات أن يحدث بنفسه من غير شيء ولا أن يستقـل بإحداث شيء ، لأنه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئاً لا يملكه .
ولم يزل علماء المسلمين يواجهون عُتاة المُلحدين بهذا الدليل البدهي فيُبهتون ويذكر عن أبي حنيفة - رحمه الله - وكان معروفًا بالذكاء أنه جاءه ملاحدة يقولون له : أثبت لنا وجود الله فقال : دعوني أفكر ، ثم قال لهم : إني أفكر في سفينة أرست في ميناء دجلة وعليها حمل فنزل الحمل بدون حمال ، وانصرفت السفينة بدون قائد ، فقالوا : كيف تقول مثل ذلك الكلام فإن ذلك لا يعقل ولا يمكن أن نصدقه ؟ فقال : إذا كنتم لا تصدقون بها فكيف تصدقون بهذه الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والسماء ، والأرض ، كيف يمكن أن تصدقوا أنها وجدت بدون موجد ؟ !.

و إن قيل لا نسلم لكم بأن لهذا الكون فاعل ؛ لأننا لم نر فاعل يخلق الكون ، و إننا نستدل بوجود الساعة على وجود صانعها ؛ لأننا رأينا الساعة و الصانع كليهما و إذن فوجود الكون لا يقوم دليلا على وجود صانعه إلا إذا رأينا الصانع و المصنوع جميعا والجواب أن دلالة الفعل على الفاعل من البديهيات و لا تحتاج مشاهدة الفعل و الفاعل معا و مجرد أن ترى الفعل تعتقد بداهة بأن له فاعل و لو لم تشاهد الفاعل .


و الفعل يدل على الفاعل بدلالة اللزوم أو دلالة العقل أي يحكم العقل بوجود هذه الدلالة بين الدال و المدلول و هذه الدلالة تنشأ من الملازمة بين الشيئين ملازمةً ذاتية في وجودهما الخارجي كالأثر والمؤثِّر و كالفعل و الفاعل و كالعلة و المعلول و كضوء الصبح الدال على طلوع الشمس. و تتميَّز هذه الدلالة : بأنَّها لا تختلف باختلاف الأشخاص والأمصار، فهي تحصل لأيِّ إنسانٍ مهما كان سواء العالم أو الجاهل ، القروي أو الحضري .

و نعترف عند رؤية البناء بوجود الباني و لو لم نره و نعترف عند رؤية الصنعة بوجود صانع و لو لم نره و نعترف عند رؤية الكتابة بوجود كاتب و لو لم نره .

و إن قيل لا نؤمن بوجود عملية خلق فالجواب هذا الكون وجد بعد أن لم يكن شيئا فهذا الكون موجود و موجده الله و عملية إيجاد الكون بعد أن لم يكن تسمي الخلق ، و الفعل لا بد له من فاعل فالسؤال الطبيعي من الذي أوجد هذا الكون أو من الذي خلق هذا الكون و يستحيل أن يكون الكون قد أوجد نفسه بنفسه و لابد له من قوى قادرة أوجدته بعد أن لم يكن .

و إن قيل القول بوجود علة لكل شيء في هذا الكون ، يجرّ إلى البحث عن علة لله نفسه و الجواب أن هذا كلام باطال قائم على قياس الله على الكون و الله أزلي ، و الكون حادث فالقياس فاسد أي هم قاسوا الأبدي واجب الوجود لذاته ، و يستحيل في العقل عدمه ، على الكون الحادث الممكن في العقل عدمه و الممكن في العقل عدمه ووجد بعد أن لم يكن لا بد من البحثِ عن علة انتقاله من العدم إلى الوجود و سر هذا الكلام الفاسد الغفلة عن وجه الحاجة إلى العلّة و هو إمكان الوجود لا الوجود نفسه .

و إن قيل كيف نؤمن بخالق لم يثبت عندنا وجوده بإحدى حواسنا الخمس؟
و الجواب لا ينحصر إثبات وجود الله تعالى بالحواس الخمس، فنحن لا نرى بعض الأشياء رغم وجودها ، ولا نرى الكهرباء و لا نرى الروح و لا نرى العدل و لا نرى الظلم ، ولكن كل هذه الأشياء تبقى موجودةً ويمكن الاستدلال على وجودها من خلال آثارها, والكهرباء نقر بوجودها من خلال آثارها كالنور والحركة وغيرها و الروح نقر بوجودها من خلال آثارها و العدل و الحكمة و الكرم و الظلم نقر بوجودها من خلال آثارها و طريق الإثبات العقلي أقوى من طريق الإثبات من الحواس ؛ لأن الحواس قد تخطأ و تشتبه ، أما الدليل العقلي الصحيح يكون قطعياً يقينيا و قد ثبت وجود الله بالفطرة و العقل و الشرع .


و إن قالوا وجود الكون لا يدل على مسببه فما نسميه بالعلية ماهو إلا اقتران ظاهرتين زمانا ومكانا ترسخ في الذهن عن طريق التكرار فالجواب أن هذا الاقتران لظاهرتين اقتران واقعي فعلي ضروري و ليس مجرد عادة ذهنية فهناك ترابط و عدم انفكاك بين السبب و النتيجة و العلة و المعلول و كلما حدث السبب حدثت النتجة و كلما حدثت العلة حدث المعلول و دون حدوث السبب لا تحدث النتيجة و لو لم يكن الله موجودا لما وجد الكون .

و إن قالوا أن العلة لا بد أن تكون من جنس المعلول و عليه فعلة الكون المادي لا يمكن أن تكون إلا علة مادية والجواب أن هذا الكلام فيه خلط بين العلة الفاعلة و العلة المادية و العلة المادية هي الأجزاء المادية التي يتكون و يتركب منها المعلول و العلة الفاعلية و هي التي تفعل الفعل، و سبب وجود الفعل فمثلا صناعة السرير و صانع السرير صناعة سرير من خشب تتوقف على وجود نجّار يصنعه ، فيعدّ النجّار، علة فاعلية في صنع السرير ، و السرير لا يوجد بلا خشب، فالخشب علة مادية لوجود السرير .

و قاعدة التناسب بين العلة و المعلول تنفي أن تكون علة الكون الفاعلة علة مادية و تثبت أن علة الكون الفاعلة علة عالمة حكيمة قادرة حية سميعة بصيرة... لأن وجود مخلوقات عالمة في هذا الكون ينفي أن يكون موجودها فاعل غير عالم ؛ لأن من ليس عنده علم لا يهب العلم ففاقد الشيء لا يعطيه .

و إن قالوا : بما أن السببية خاضعة للزمن فلا منطق في الحديث عن سببية لنشأة الكون لعدم وجود الزمن قبل نشأة الكون ، و الجواب : لا يتصور خضوع الخالق لقوانين مخلوقاته فالسببية قانونا للمخلوقات ، و الله الذي خلق الزمان و المكان هو بالضرورة فوقهما و لا يخضع لقوانينهما و الله هو الذي خلق قانون السببية ، و لا نتصوره خاضعا للقانون الذي خلقه لمخلوقاته و القول بخضوعه لهذا القانون تشبيه له بمخلوقاته .

و كونه تعالى علّة للموجودات ليس بمعنى أنه شرط لوجودها بل بمعنى أنه الموجِد لها و العلة الموجدة توجِد معلولها من العدم أي تخلقه بعد أن لم يكن ، و هي قسم من أقسام العلة الفاعلية ، و لا يمكن أن نجد لفاعلية الله تعالى نظيرا في سائر العلل الفاعلية، ذلك أن الله تعالى هو الفاعل الوحيد الذي يوجِد معلوله بدون أن تكون فاعليته سبحانه و تعالى مشروطة بأي شرط كالوقت أو المكان .

و إن قالوا : هذا الكون تكون صدفة فالجواب أن العلامة المميزة للمصادفة ، هي عدم الاطراد و عدم النظام ، بينما النظام السائد في هذا الكون ثابت كل الثبات ، مطرد بلا تخلف على تعقده ، تحكمه قوانين نتوقع معلولاتها توقعاً يقينياً : فكيف يدعي أن مثل هذا النظام المطرد ناتج مصادفة ، أي من عدم النظام وعدم الاطراد ؟

و وجود الطبيعة - من جبال و بحار و غابات و حيوانات و نباتات و غير ذلك - على هذا النظام المتسق البديع المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب والمسببات و بين الكائنات بعضها مع بعض يمنع منعاً باتاً أن يكون وجودُها صدفةً .

و إن قالوا : الكون لم يكن بحاجة إلى إله يشعل فتيل ما لخلقه فنشأة الكون لم تكن سوى عواقب حتمية لقوانين الفيزياء و الجواب أن الفيزياء تفسر لنا ما يحدث و ليس لماذا يحدث و ليس مسألة الاعتقاد بوجود الله و أنه مسبب الأسباب مسألة أصابع تمتدّ من وراء الغيب ، فتقطر الماء في الفضاء تقطيراً ، أو تحجب الشمس عنّا ، أو تحول بيننا وبين القمر ، فيوجد بذلك المطر والكسوف والخسوف ، فإذا كشف العلم عن أسباب المطر وعوامل التبخير فيه ، و إذا كشف عن سبب الكسوف ، و الخسوف يخيّل لهؤلاء الملاحدة أنّ الإيمان بوجود الله لم يبقَ له موضوع ، وأنّ الأصابع الغيبية التي تحجب الشمس أو القمر عنّا ، عوَّض عنها العلم بالتعليلات الطبيعية ، وليس هذا إلاّ لسوء فهم الإيمان بالله ، وعدم تمييز لموضع السبب الإلهي من سلسلة الأسباب .
و الاعتقاد بوجود الله و أنه مسبب الأسباب لا يعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعية ، أو التمرّد على شيء من حقائق العلم الصحيح ، وإنّما هو اعتقاد بأن الله هو المسبب لهذه الأسباب الطبيعية ، ويحتّم على تسلسل العلل والأسباب أن يتصاعد إلى قوّة فوق الطبيعة و فوق الكون و حتى لو سلمنا جدلا أن العلم وصل إلى معرفة كل الأسباب الطبيعية فهذا لا ينفي وجود الخالق بل هذه الأسباب الطبيعية دالة على موجد لها فكل سبب له مسبب ، و الله عز و جل مسبب هذه الأسباب الطبيعية .

و إن قالوا : أن الكون الذي نحن فيه هو واحد فمن أكوان لانهائية فالجواب لو سلمنا جدلا بأن كوننا واحد من أكوان لا نهائية فهذا لا يستلزم عدم وجود علة موجدة للكون فمن الذي أوجد هذه الأكوان و ما دليلهم على أن كوننا واحد من أكوان لا نهائية و اللانهائية غير موجودة في الواقع المادي و إن كان لها وجود في الرياضيات و الذهن و هل شهدوا خلق الكون حتى يقولوا أن كوننا من أكوان لا نهائية ؟ و قد قال تعالى : ﴿ مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ﴾ [4] ،و قال تعالى : ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾[5] .


هذا و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات






[1] - الأنعام من الآية 164
[2] - الطور الآية 35 - 36
[3] - الزمر الآية 62
[4] - الكهف الآية 51
[5] - الإسراء الآية 36
__________________

 
Design by قوالب بلوجر | Bloggerized by Free Blogger Templates | coupon codesمحترفى بلوجر